الازمة المالية العالمية: وجهة نظر مسيحية
المطران أميل شمعون نونا
واقع الازمة.
من الممكن ان نرى بوضوح الوضعية العالمية الحالية للاقتصاد. فالاقتصاد الدولي يتقدم بصعوبة ظاهرة والقوى الكبرى اقتصاديا مثل الولايات المتحدة الامريكية لا تشعر بنفسها جيدة جدا. وهذا انسحب ايضا الى اقتصاديات الدول الاخرى في العالم بشكل عام، وهذا لا يخفى على احد حتى من غير المهتمين والمتعمقين بالقضايا الاقتصادية.
ويبدو ان المشروع الذي روّج له كثيرا انطلاقا من نهاية الستينيات وبداية السبعينيات في العالم الغربي بوجود عالَمٌ غني جدا وسعيد ومن غير الله يتحطم على صخرة واقع الاشياء التي تحدث. وهنا كمسيحيين نواجه تحدي كبير نلخصه بسؤال واحد: ما الحل؟
ولا يمكن الا ان نجاوب بشكل بسيط وسريع بان الحلّ هو بالعودة الى حياة مسيحية حقيقية.
يبدو ان ما يحدث اليوم في العالم وكأنه “العاصفة الكاملة”. فاولا كانت – ولا تزال في عمومها – الازمة المالية في الولايات المتحدة الامريكية مترافقة مع الاحساس بانهيار عسكري فجائي للقوة العظمى المرتبطة باحلام العسكريين. بعدها سقطت بعض الامم الاوربية في وضع مأساوي، واعتُبِرت قريبة للإفلاس لكن تدخل الاتحاد الاوربي خلّصها نوعًا ما: اليونان كانت الاولى لكن هناك ايضا اسبانيا والبرتغال. ودول أخرى اوربية او غربية أُجبِرت على ان تقوم بمناورات اقتصادية مبنية على قطع النفقات وزيادة الضرائب. الاقتصاد العالمي يبدو وكأنه في ليلة من غير نهاية: العالم الذي كان في وقت ما غنيٌ جدا يتقدم اليوم بصعوبة، ابتداءً من امريكا. فما الذي يحدث؟
من وجهة نظر معينة فيما يحدث يبدو بان ليس هناك شيء جديد تحت الشمس، كما يقول كاتب سفر الجامعة (1: 9): فمشاكل الدَين العام، الضرائب، التهرب الضريبي، الاضرابات، البطالة، المؤشرات السلبية في البورصة، هي معروفة وليست جديدة، وقد تَعَوّد البشر على التعايش معها وبشكل دوري خاصة في العالم الغربي. وهنا يبدو التذكير جيداً بان المشروع الانساني – الانساني بافراط – بتأسيس نظام متكامل، هنا في هذا العالم، والذي يكون فيه الكلُ جيدين وراضين عن الذي يحكم؛ أي مكانٌ فيه غنى للجميع وكل شيء يشتغل بشكل منزّه عن الخطأ؛ يبدو ان مكان مثل هذا لا يمكن ان ينوجد اذا اردنا ان نكون منصفين.
من الواضح ان الانسان يجتهد من اجل جعل بقائه “القصير” على هذه الارض مريح، ويعمل كل ما بوسعه لتحقيق ذلك. والمسيحية نفسها – بشكل مختلف عن باقي الاديان – تُفضّل هذا العمل الذي يهدف الى تحسين الحياة الارضية، والذي يبحث فيه الانسان عن تحقيقه بعمله وبذكائه.
الازمة الحالية اذن تنشأ – من وجهات نظر عديدة – وببساطة من طبيعة الانسان نفسها ومن حدوده، ومن عدم تكامله، ومن جشعه، من انانيته، ومن واقع ان الفردوس لن نستطيع بنائه بايدينا هنا والآن بشكل كامل.
بعد ان عرفنا كل ذلك يلزمنا الاعتراف بان الذي يحصل حاليا فيه ايضا شيء جديد بشكل تام: لقد دخلنا في حقبة عدم امان كبيرة وجماعية، فالكثير من التأكيدات التي تعوّد عليها ابناء القرن العشرين قد ذابت مثل الثلج تحت الشمس، ويبدو انها لم تكن تأكيدات حقيقية. وهذه الحالة لا تتناول فقط “موت الايديولوجية” المشهور، حيث زالت من الوجود اليوتوبيات[1] التي نشأت في القرن التاسع عشر، وبشكل خاص الشيوعية باشكالها المتنوعة. لكن على هامش المساوئ التي حصلت من هذه الايديولوجيات ومسيرة ازالتها، تولّت قناعة عند الاكثرية بانه بالامكان بناء عالم جديد مؤسَّس على مبدأ سياسي واخلاقي واحد: “مبدأ الحرية“. فالمجتمع الحرّ سيكون ايضا مجتمع اكثر غنى، وبالتالي مجتمع اكثر سعادة. وكانت هذه القناعة نظرية خلاّبة جدا وساحرة، لان شهوة الانسان بان يكون حرا وسعيدا محفورةٌ في طبيعته.
الذي يحصل الان في العالم من الناحية الاقتصادية وتداعياتها على الشعوب وطرق معالجتها المتسمة بالعنف والدخول في حروب ونزاعات كثيرة، يبين وبشكل كبير جدا ان هذه النظرية ليست حقيقية ولا واقعية لا في الجانب الاقتصادي ولا – بشكل اكثر – في الجانب الانتروبولوجي. فهي تولد بالحقيقة سلسلة من النتائج السلبية التي تظهر الان للعالم المعاصر، ونختصرها بنقطتان.
نموذج النمو الاستهلاكي و”قيمه”.
اعتقد الكثيرون ان اقتصاد السوق ولد بالتعارض مع الماركسية ويحل محلها وهو الحلّ الامثل، من دون ان يتعمقوا في وجود جذر مشترك بين الاثنين يُنزّل الانسان الى بعده المادي والاقتصادي فقط. والسعادة – استنادا الى ذلك – تتأسس على الانتاج الداخلي الذي هو مُلوّث في كلا الطرحين، رغم وجود اشكال مختلفة لتحقيق الهدف في هذين النموذجين.
المنهجية الشيوعية اتضحت انها خاسرة، بينما ظهرت المنهجية الليبرالية اكثر عملية. لكن كلا النظامين اخيرا دفعا ويدفعان ثمن الوعد الكبير – الخاطئ والمضاد للمسيحية – والذي هو في اساس قاعدتهما، اي: الغاء الله والحياة الابدية من الوسط، وتركيز كل الجهود في بناء عالم مملوء من الفرص والمُتع.
وقد أغرى هذا النوع من الحياة، اي العيش مُركزين فقط على الخيرات المستهلكة وعلى الذات الكثير من المسيحيين، الذين اعتبروا مثلا ان الخلق والحياة الابدية هي امور العجائز. وما تقوم به المجتمعات اليوم هو بالحقيقة محاولة العيش في حقل هائل الحجم من التسلية، والذي قد اُقتلعت فيه القواعد الاخلاقية القديمة للوصايا العشر واستبدلت بقواعد مفهوم الطلب والعرض التي هي ظاهريا جيدة. وقد نجحت هذه اللعبة لحقبة معينة، لكن حاليا يبدو انها قد تكسرت. الا ان المصيبة هي ان الاقتصاديين، والمتخصصين بالبنوك والقادة السياسيين لا يبدو انهم قادرين على ايجاد الخلل ومعالجته. انهم يعطون رؤى عديدة فقط من غير امل كبير بالاصلاح.
فشل مفهوم الدولة الكاملة وفرط التضخم بها.
ان السبب التقني للازمة الحالية – ويبدو ان الكل متفق على هذه النقطة – هو المستوى العالي جدا للنفقات: فالدولة لها مصروفات عديدة اكثر مما تستطيع ان تجيز لنفسها. والحل هو ان يتم القطع: قطع المساعدات الصحية، والخدمات العامة، ودعم قوات الامن على سبيل المثال. لكن قول ذلك اسهل بكثير من عمله، لان الجميع تقريبا في البلدان الغربية اصبح متعود ومن عشرات السنين على التفكير بان السلطة العامّة لها واجب تأمين كل هذه الخدمات، لا بل تحسينها بشكل مستمر. لا بل تمّ تأسيس نظام من القيم خاصّ بشكل كامل لهذه الخدمات. على سبيل المثال، نظن ان “المهم هو الصحة”، وبالتالي مهمة الدولة تأمينها. من الواضح ان الصحة هي في قلب اهتمام الكل، لكن ان يقال انها هي الشيء “الاكثر اهمية” هو مفهوم مضاد للمسيحية بشكل عميق، وعديم الانسانية بشكل جوهري. فالعيش مع هذه الفكرة المتسلطة ينتج بالواقع اشخاصا اكثر انانيين، وخائفين، وفردانيين، واقل ميلا للتضحية؛ ومحور الواجبات ينتقل بشكل تام من الفرد الى الدولة: لست انا من بعدُ الذي يهتم بافراد عائلتي، بل يجب ان تقوم بذلك الجماعة. لست انا من بعدُ الذي يربّي اولادي، بل المدرسة العامة. لستُ انا من بعدُ الذي يهتم بوالديّ الكبيرين بالعمر بل مؤسسات الدولة. هذا النوع من التفكير والتعامل او الانتظار يدفع الدولة نحو دور غير معروف ومهم في الفترة الوسطى من العمر، ويزيد ايضا من الميول المتعلقة بالقتل الرحيم او بتحديد النسل، او بعدم الالتزام التربوي للعوائل.
ازمة اقتصادية أم ازمة ايمان.
ليس هناك من شك باننا نعترف بان عالم اليوم هو في ازمة ليس فقط في الناحية الاقتصادية والمالية، بل وقبل اي شيء في الناحية الاخلاقية. فالانسانية اليوم تبدو فاسدة بشكل كبير وثورية بشكل منتشر على الخالق وعلى كل تشريعاته، وهذه الانسانية لا تستطيع ان تعيش في يسر وسعادة بهكذا طريق. فالحياة ضد الطبيعة تلد وحوشا، وبالاخير تدمّر تعايشها الاجتماعي نفسه.
يوجد نص في الرسالة الثانية الى طيموثاوس يصوّر به مار بولس وبدقّة مذهلة العالم الذي نعيش فيه اليوم: (ستاتي في الايام الاخيرة ازمنة عسيرة يكون الناس فيها محبين لانفسهم وللمال، صلفين متكبرين شتّامين، عاصين لوالديهم ناكري الجميل فجّاراً، لا ودّ لهم ولا وفاء، نمامين مفرطين شرسين، اعداء الصلاح، خوّانين متهورين، اعمتهم الكبرياء، محبين للذة اكثر منهم لله، يظهرون التقوى ولكنهم ينكرون قوّتها) 2 طيم 3: 1-5.
بقرائتنا لواقعنا الحالي للازمة المالية وازمة الايمان نسأل سؤالا يأتي في فكر كل مؤمن:
هل من الممكن الخروج من هذه الازمة المالية والاقتصادية؟ لنترك المهمة الشاقة في ايجاد الحلول التقنية للاقتصاديين وللسياسيين. لكن علينا ان نعرف ان امكانية وجود اقتصاد صالح في عالم مثل الذي يصفه مار بولس ليس ممكنا. الحل الوحيد الحقيقي اذن هو بالعودة الى رؤية مسيحية للحياة، والبدأ بممارسة الفضائل الفردية التي لا يمكن ان يتم وضع بديل لها من قبل الدولة المدنية. ونعود نحن اولاً الى الحياة المسيحية الواقعية الملتهبة في الموانئ الآمنة للافخارستيا وللعذراء مريم ام الكنيسة وامنا. ان القربان المقدس ووالدة الله مريم هما الدعامتان التي من خلالهما نستطيع نحن المسيحيين ان نعيش حياتنا ونساهم في حل ازمة العالم من خلال اعطاء وجه آخر بديل لما موجود حاليا. لنكن في الكنيسة من دون خطابات لاهوتية عظيمة فقط، من دون كلمات باطلة، ومن دون ان ننتظر ان يأتي الخلاص من الآخرين او من المؤسسات الديموقراطية. ليبني كل واحد – في الكنيسة – وبشجاعة ذاته الخاصّة.
[1] اليوتوبيا: كلمة يونانية تعني حرفيا “لا مكان” واصبحت تعني المثالية نوعا ما، حيث استخدمت للتعبير عن المدينة الفاضلة، او الدولة المثالية التي يتحقق فيها الخير والسعادة للناس جميعا وتزول كل الشرور. وقد اصبحت الكلمة اشارة لنوع ادبي من الكتابة يعبّر فيه عن هذا الحلم المثالي للعيش. كتاب الفيلسوف افلاطون “الجمهورية” يمكن ان يدخل ضمن هذا النوع الادبي، وايضا كتاب القديس اوغسطينوس “مدينة الله” لكن بشكل ايماني